{ غيرة الله سبحانه }
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدهِ الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، وصفيُّه وخليله، وأمينه على وحيه، ومبلِّغ الناس شرعه، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد :فإنَّ من أعظم موجبات صلاح العبد واستقامته على صراط الله المستقيم وسلامته من الزيغ والزلل والانحراف: المعرفةُ بالله -عز وجل- وبأسمائه الحسنى وصفاته العليا التي تعرَّف إلى عباده بها من خلال ما جاء في كتابه وسنَّة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
وهذه وقفة -يا عباد الله - مع صفة عظيمة من صفات الله -جل وعلا- أخبرنا بها رسوله المجتبى ونبيه المصطفى -صلوات الله وسلامه عليه-، وقد جاء ذكر هذه الصفة في غير ما حديثٍ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتأملوا -يا معاشر المؤمنين- في هذه الأحاديث العظيمة المروية عن النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-:
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ المؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ".
وعن عائشة -رضي الله عنها- في ذِكر خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الخسوف، وفيها أنه قال: "يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ".
وعن أسماء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لَا شَيْءَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ -عز وجل-".
وعن المغيرة بن شعبة قال: قال سعد بن عبادة: "لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرُ مُصْفِحٍ عَنْهُ"، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ! فَوَاللهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي، مِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ".
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ".
وهذه الأحاديث الخمسة قد اتفق على إخراجها الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما.
وقد تضمنت هذه الأحاديث إثباتَ الغيرة صفةً لله -عز وجل-، والشأنُ فيها كالشأن في جميع صفات الله الثابتة له في كتابه وسنَّة نبيه -صلى الله عليه وسلم- على حدِّ قول ربنا جل في علاه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشورى:11]، وقوله سبحانه (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)[مريم:65].
ومن آثار هذه الصفة ما ذكره نبينا -عليه الصلاة والسلام- أن الله -عز وجل- من أجل هذه الغيرة التي اتصف بها جل في علاه حرَّم الفواحش على العباد ما ظهر منها وما بطن؛ ولهذا -عباد الله- عندما تراود النفس الأمَّارة بالسوء العبدَ على ارتكاب الفواحش عليه أن يتذكر غيرة الرب العظيم -جل في علاه-، وأن يكون مستحضرًا هذه الصفة العظيمة له -جل وعلا-، فيحمله ذلك على البُعد عن الدنايا وعدم ارتكاب الفواحش، ولاسيما إذا كان مستحضرًا اطلاع الله عليه ورؤيته له وعلمه بأحواله وأعماله.
وإذا كان من يريد الزنى بامرأة يحذر أشدَّ الحذر من اطلاع أحد محارمها على فعلته الشنيعة خوفًا من غيرته, فأين الخوفُ من الله والإيمانُ بغيرته؟! فإنَّ غيرتَهُ أشدُّ وعقوبتَهُ أنكى.
والله -جل وعلا- حرَّم الفواحش على العباد؛ لأنها مهلكةٌ لهم في دنياهم وأخراهم، وإلا فإن الله -عز وجل- غنيٌ عن العباد وعن طاعاتهم، وغنيٌ عن انكفافهم عن الذنوب والمعاصي، كما بيَّن ذلك -جل في علاه- في الحديث القدسي حيث قال: "يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا"؛ فهو -جل في علاه- لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين، (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا)[الإسراء:15].
وعندما يضعُف الإيمان ويرق الدين وتضعف المعرفة برب العالمين يتحول هذا الإنسان إلى بهيمةٍ في تصرفاته وأعماله لا يبالي بفاحشةٍ ارتكبها أو موبقةٍ فعَلَها غير معظِّمٍ لربه ومولاه وغير مبالٍ بمساخطه ومناهيه -جل في علاه-، بل حال الإنسان ربما تتحول إلى حالٍ أشبه أو أسوأ من حال بهيمة الأنعام؛ ولهذا يصبح في الناس -عياذًا بالله- من هو ديوثٌ لا يغار على محارمه؛ لأن الغيرة صفةٌ شريفة ومنزلةٌ علية تعظُم في العبد مع عظم إيمانه بالله وتعظيمه لحرمات الله -جل في علاه-.
فإذا ضعُف هذا الإيمان أو انعدم انعدمت الغيرة وتحول المرء إلى ديوث، وإذا كان في البهائم من توجد فيها الغيرة فإن من الناس لرقَّة دينه وانعدام معرفته بربه أوضعفها يصبح لا يغار، بل يصبح ديوثًا يقرُّ الفواحش في أهله والعياذ بالله، ولهذا جاء في المسند وغيره من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثَلَاثَةٌ قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْجَنَّةَ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْعَاقُّ، وَالدَّيُّوثُ الَّذِي يُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الْخَبَثَ".
عباد الله: ما أعظم حاجة العبد إلى حُسن المعرفة بالله -جل وعلا- والمعرفة بأسمائه وصفاته؛ ليعتدل في سلوكه، ولتستقيم حالُه، وليكون بعيدًا عن الدنايا، فإنه كلما عظمت المعرفة بالله صلحت حال العبد واستقامت، فإنَّ "من كان بالله أعرف كان منه أخوف، ولعبادته أطلب، وعن معصيته أبعد".
نسأل الله -جل في علاه- أن يصلح قلوبنا أجمعين وأن يزكي أعمالنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يهدينا إليه صراطًا مستقيما؛ إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل.