{التشويق لحج البيت العتيق}
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين...
أما بعد: روى القرطبي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وسعيد بن جبير -رحمه الله- قال: لما فرغ إبراهيم -عليه السلام- من بناء الكعبة، قال الله -تعالى- له: "أذِّن في الناس بالحج. قال: يا رب! وما يبلغ صوتي؟ قال: أذِّن وعليَّ الإبلاغ, فصعد إبراهيم خليل الله جبل أبي قبيس وصاح: يا أيها الناس! إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار فحجوا".
إن هذا النداء العظيم من خليل الرحمن .. والذي تكفّل الله -تعالى- بإبلاغه .. قد بلغ, فهاهم الناس اليوم من كل فجّ عميق يقدمون على مكة ليشهدوا منافع لهم.
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.. وها قد اقترب موسم الحج, اقترب موسم غفران الذنوب, وعتق الرقاب, وعودة الناس من حجهم كيوم ولدتهم أمهاتهم:
أقول وقد دعا للخير داعٍ *** حننت له حنين المستهامِ
حرامٌ أن يلذّ ليَ اغتماضٌ *** ولم أرحل إلى البيت الحرامِ
ولا طافت بي الآمال إن لم *** أطف ما بين زمزم والمقامِ
يترك إبراهيم -عليه السلام- زوجته الضعيفة هاجر, وابنه الصغير إسماعيل في بطن وادي قاحل, ليس فيه إلا الرمل والحصى, يفتقد لكل مقومات الحياة, فلا ماء ولا ظلال ولا حتى زرع, ثم يبتعد عنهم -عليه السلام- ويرفع يديه إلى السماء: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم: 37].
فاستجاب الله دعاءه؛ فأصبح الناس من كل بقاع الأرض يأتون إلى مكة على مدار العام (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [القصص: 57]، قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير: "لو قال إبراهيم: "أفئدة الناس" لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم, ولكنه قال "من الناس" فاختص به المسلمون".
إنه حج بيت الله الحرام .. فرضه الله -تعالى- على عباده، وجعل ذلك من أركان الإسلام ومبانيه العظام؛ ولا تبرأ ذمةُ المسلم المستطيعِ إلا بالإتيانِ به، (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97]؛ وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بني الإسلام على خمسٍ: شهادةِ أنْ لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاء الزكاةِ، وحجِّ البيتِ، وصومِ رمضان".
رتب الله – عز وجل- على الحجِّ الأجرَ الجزيلَ والثوابَ العظيم؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "العمرةُ إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة".
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من حَجَّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيومِ ولدته أمُّه".
حج بيت الله الحرام .. يجب على كل مسلم مستطيع أن يبادر إليه ولا يؤخره, الحج ركن من أركان الإسلام الخمسة التي لا يقوم إلا بها, وهو قرين التوحيد والصلاة والزكاة, فيا عبد الله: يا من أنعم الله عليك بالصحة والعافية، ورغد العيش، وأمن الطريق، وتوفر وسائل السفر المريحة الآمنة بإذن الله -تعالى- بادر إلى حج بيت الله وأَدِّ الواجب عليك لتبرأ ذمتك وتطيع ربك، ولا تكونن من الكافرين بنعمة الله, المتقاعسين عن طاعة الله، فإن الله -تعالى- غني عن الناس أجمعين، لا تنفعه طاعة الخلق، ولا تضره معصيتهم، بل الناس كلهم فقراء إليه، ضعفاء بين يديه، محتاجون إلى رحمته، ومفتقرون إلى عونه ولطفه سبحانه.
وقد أوصانا الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالمبادرة إلى الحج؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "تعجلوا إلى الحج -يعني الفريضة- فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له" رواه أحمد بسند صحيح.
الحج واجب على الفور, فمن كان مستطيعًا للحج وأخَّرَهُ فهو آثِم آثم, وكل سنة يقوم بتأخيره فهو يزداد في الإثم ولا حول ولا قوة إلا بالله, ثبت عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "ليمت يهوديّاً أو نصرانيّاً ثلاثاً، رجل مات ولم يحج وجد لذلك سعة وخليت سبيله" رواه البيهقي بسند صحيح كما قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-.
وروى أحمد بسند حسن: "من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة". وأخرج ابن حبان بسند صححه الألباني من حديث أبي سعيد الخدري: إن الله -تعالى- يقول: "إن عبداً أصححت له جسمه ووسعت عليه في معيشته، تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إليَّ لَمحروم"، فإذا كان من لا يحج في كل خمسة أعوام محروماً، فما عسانا أن نقول لمن لم يحج حتى الآن حج الفريضة؟ هذا مع تيسر السبل وسهولة السفر وقصر المدة.
يا من امتن ربك عليك بالصحة والمال .. ودعاك لشكره بحج بيته فلم تُجِب.. اسأل نفسك: لماذا لم أحج؟ ومتى سأحج؟ هل تضمن أن يُبقيك الله على ظهر الأرض إلى موسم الحج القادم؟! لقد كان آباؤك وأجدادك يقضون أشهرًا في رحلة الحج ذهاباً وإياباً مع وعورة في الطريق, ومشقة في الدواب وشدة الحر أو البرد, وأنت اليوم توفرت لك المراكب الهنيئة, والخيم المكيفة, والمدة القصيرة, فلماذا التسويف؟!
تأمل في من يسكن بلاد الحرمين , يمكث عمره كله يجمع القرش على أخيه, يقتطعه من طعامه وطعام أولاده, يعيش عيشة الكفاف, حتى إذا بلغ من العمر عتيًا اجتمع لديه مبلغ يتمكن به من الوصول إلى بيت الله العتيق, ليكحل عينه برؤيته,
تأمل في حال من ابتلاهم الله -تعالى- بالأمراض فأقعدتهم عن الذهاب إلى الحج, يتمنى الواحد منهم أن يشهد مشعر عرفات مع الحجيج, ويبيت في مزدلفة عند المشعر الحرام, يتمنى أن يرمي الجمار في منى, ويحلق رأسه لينال بكل شعرة حسنة, لكنه لا يستطيع تأمل حاله واسأل نفسك: لماذا التسويف؟!
يا ليتني قد كنت بعض ترابها **** فيدوسني حجاجها والمعتمر
أو كنت بعض صخورها وجبالها **** يا ليتني أبقى بها طول العمر
يا عاذلي في حب مكة والهدى**** قلبي تعلق بالمشاعر ما اصطبر
وتعلقت كل النفوس بحبها **** شغف الفؤاد بها فليس بمنتهر
أيها التاجر المسلم.. يا من أنعم الله عليك بالمال, وحثك على بذله في وجوه الخير ووعدك بالثواب, (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 261].
في موسم الحج تشتاق أرواح المؤمنين الصادقين إلى الذهاب إلى بيت الله الحرام, والاختلاط بالمسلمين في تلك المشاعر المقدسة, وكم بكت من عيون إذا رأت في التلفاز جموع الحجيج في عرفة, يتمنى أن يكون معهم لكن منعته قلة ذات اليد, قد يكون هذا الشخص لا يجب عليه الحج لعدم الاستطاعة .. نعم .. لكنه يتمنى الذهاب إلى تلك البقاع, يغسل أدران ذنوبه, وينقي سريرته, ويكحل عينيه برؤية البيت العتيق, ويرجو أن يعود من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
يا تجار المسلمين .. كونوا شركاء لهم في الأجر, كونوا عونًا لهم على الخير, كونوا مفاتيح للخير, هذه رحلة العمر, أحسن كما أحسن الله إليك, وأبشر بالخير من الله, (هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد: 38].