الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فإن التفقه في الدين من أفضل الأعمال، وهو علامة الخير؛ قال صلى الله عليه وسلم: من يرد اللهُ به خيرا، يُفَقِّهْهُ في الدين. متفق عليه؛ وذلك لأن التفقه في الدين يحصل به العلم النافع الذي يقوم عليه العمل الصالح. والعلم في الإسلام يسبق العمل

المزيد
وقائع وتوجيهات

{يوشك أن تداعى عليكم الأمم }

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مُضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تَبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمَّا بعدُ:

فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي رسول الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

واعلموا -رحمكم الله- أن نبينا محمدًا -صلى الله عليه وآله وسلم- ما ترك شيئًا به سعادة الناس وطيب معاشهم، وهناءة معادهم إلا بيَّنه أتم البيان، ولا شرًّا وضرًّا إلا حذَّر منه، وبيَّنه أتم البيان، فما انتقل إلى ربه إلا وقد بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده.

عباد الله : وإن من البيان والنصح الذي بلغه وبيَّنه وقدَّمه سيد الخلق محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لأمته: ما ستواجهه في قادم أيامها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وبخاصة ما يتعلق بالفتن وأنواع الشرور التي تضر بها، وتؤدي بها إلى أحوال سيئة، فقد أبدى وأعاد عليه الصلاة والسلام في هذا الباب، فما بقي لمعتذر عذر، ولا لمتحجج حجة.

ومن هذه البيانات وأساليب التوجيه: مما أخبره الله -جل وعلا- به من غيب سيكون في قادم الأزمان بعد عصره، وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام؛ ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها"، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهن" فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت" هذا حديث ثابت عنه عليه الصلاة والسلام (رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، والبغوي في شرح السنة وغيرهم، وجاء من طرق متعددة من رواية أبي هريرة -رضي الله عنه- وثوبان -رضي الله عنه-).

وهذا الحديث العظيم هو نوع من الغيب الذي أُخْبِره نبينا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- من ربه -جل وعلا-، وما سيكون في قادم الأزمان من بعد عصره عليه الصلاة والسلام؛ حيث قال: "ولكنكم غثاء كغثاء السيل" يعني فيما يكون بعد عصر الصحابة -رضي الله عنهم-.

وهذا الحديث العظيم الغرض منه والقصد فيه أن تكون الأمة على ما أراد الله -جل وعلا- جميعًا؛ سواء كان ذلك بدولها وحكوماتها، أو أفرادها وشعوبها.

ومعنى أن يكونوا على ما أراد الله -جل وعلا-: أن يكون همهم وقصدهم عبادته سبحانه، وإرادة وجهه والدار الآخرة، وألا يتعلقوا بالدنيا لذاتها، وإنما يجعلوها قنطرة إلى ما عند الله -جل وعلا- من الرضوان وحسن العقبى، وأن يحذروا مما يكون من أعدائهم؛ فإن أعداء هذه الأمة لن يزالوا حريصين على إلحاق الأضرار بها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

وفي قوله عليه الصلاة والسلام: "يوشك الأمم" يعني أن هذا الأمر قريب أن يكون؛ لأن هذا الفعل "يوشك" كما يسميه علماء اللغة من أفعال المقاربة؛ أي: يقرب أن يكون من الأمم، والأمم المعنيَّة هنا هي أمم الكفر والضلالة.

"أن تَداعى عليكم" بمعنى: أن يدعو بعضهم بعضًا لأجل الاعتداء عليكم ومقاتلتكم، وسلب ما ملكتموه من ديار وأموال، وما عندكم من خيرات، فإن قوله عليه الصلاة والسلام: "كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" بمعنى: أنهم يشاهدون ما في أيديكم من أنواع الخير الذي يَفيئه الله عليكم.

وهذا أمر مشاهد فإن أراضي أمة الإسلام اليوم فيها من أنواع الخيرات والبركات، وما أخرجه الله لهم من باطن الأرض، وما أفاءته الزروع والثمار، وما جرت به الأنهار، وما هو على حافَات البحار من أنواع الخير، ما يُحقق الاكتفاء الذاتي لهذه الأمة لو أحسنت إدارة شؤونها، وما في أيديها من هذه النعم والخيرات.

فقوله عليه الصلاة والسلام: "كما تداعى الأكلة" يعني بذلك: الأكلة جمع آكل، وهو أنهم يشاهدون بما أيدي المسلمين، "كما تداعى الأكلة إلى قصعتها"، حينما يجتمع الآكلون على القصعة، وهي الإناء والوعاء الكبير المليء بالطعام الذي لا يُمنع منه أحد لكثرته ووفرته، ولعدم وجود مانع يمنع مريد الأكل أن يأكل ويشارك في ذلك، فهذا يصور به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ما يكون من السطوة والهجوم الذي يكون من أمم الضلال والتهور الذي يدفعهم؛ لأن يكونوا مندفعين إلى أن يهجموا، وإلى أن يتسلطوا على المسلمين؛ طمعًا فيما في أيديهم فيما أفاءه الله -جل وعلا- من أنواع الخيرات.

والمقصود أنهم حينما يتداعون إلى ذلك بلا مانع ولا منازع، فيأكلون من ذلك عفوًا وصفوًا، لا مُكدر عليهم فيما ينالون ومما يأخذون، ولذلك فإن هذا الوصف يوضح أيضًا أنهم حينما يتداعون إلى هذا الأمر، فإنهم يطلبون أيسر السبل التي يأخذون من خلالها ما بأيدي المسلمين؛ بلا ضرر يلحقهم، ولا شر يصيبهم، ولا غير ذلك مما يفقدونه من أنفسهم.

والمقصود أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقرر في هذا الحديث قُرب تسلُّط فِرَق الكفر والضلال؛ حيث يدعو بعضهم بعضًا مع اختلاف مِللهم وتبايُنِ مشاربهم وعقائدهم، لكنهم يجتمعون جميعًا على حرب أمة الإسلام والطمع فيما أفاء الله عليهم؛ ليكسروا شوكة المسلمين، ويغلبوهم، ويأخذوا ما ملَّكهم الله إياه من الديار، وما أفاء عليهم من الخيرات، وحينئذ يأتي السؤال من الصحابة -جزاهم الله خيرًا، ورضي عنهم- ليُبينوا حقيقة هذا الأمر، وهذا الحال الذي سيكون قطعًا بخبر مَن لا ينطق عن الهوى؛ قال قائل: "ومن قلة نحن يومئذ؟" هل تصير لنا هذه الحال بسبب قلة أعدادنا وكثرة أعداد أعدائنا؟

فإذا بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يجيب إجابة وكأنما يطلعه الله على ما سيكون من حال أمة المسلمين؛ حيث يتزايد عددها كما وقع في عصور سالفة لأمة الإسلام، حينما تسلط عليهم الأعداء كانوا عشرات الملايين، ولا يزال عددهم يزيد إلى أن يبلغوا المليار أو يزيد على ذلك، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: "أنتم يومئذ كثير" أي: عدد كبير، وليس فيكم قلة في أعدادكم.

"ولكنكم غثاء كغثاء السيل" قال العلماء: غثاء السيل هو ما يحمله السيل من زبد ووسخ، ونحو ذلك مما يقذف به السيل حينما يسير في الوادي، فيحمل الأعشاب اليابسة، ونحو ذلك مما يكون من المخلفات.

وفي هذا تشبيه من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى أن هذا العدد يفتقد النوعية والجودة، يفتقد الإنتاج، يفتقد الآثار المباركة؛ وذلك لقلة شجاعتهم، ولدناءة آمالهم، ولتعلُّقهم بتوافه الأمور، فلا يلتفتون إلى معاليها ولا إلى شريفها، وإنما هِمم متدنية وأفعال غير منتجة، ولذلك يصيرون كمثل هذه الحال: "غثاء كغثاء السيل".

ثم يصف النبي -صلى عليه وآله وسلم- الحال أيضًا، ويُبينها أكثر أن هذا الحال الذي يكون عليه المسلمون من كثرة عددهم وقلة أثرهم، ودُنو آمالهم، وتعلُّقهم بسفاسف الأمور؛ أنه يصاحبه أيضًا أنه تنزع المهابة من قلوب الأعداء نحو المسلمين، فلا يهابونهم ولا يخافونهم؛ حيث يزيل الله هذه المهابة التي من آثارها لو صدق المسلمون أن يكونوا كما أخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه نُصِر بالرعب مسيرة شهر، ولمن تبِعه واقتفى سنته نصيبٌ من هذا النصر العظيم الذي هو أوائل تحقُّق النصر، وهو أن يكون الرعب في قلوب الأعداء، ولذلك يكون كما في وصف النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هنا، بعد أن تذهب همة المسلمين وتقل عنايتهم بدينهم، ويَقِل تعلُّقهم بالآخرة، أن المهابة وهو الخوف والرعب يُزال من قلوب أعدائهم نحوهم.

وعلى الضد من ذلك أن الله يعاقب هذا العدد الكبير من أمة الإسلام بعد أن بُيِّن لهم وأُنعِم عليهم، ثم تولَّوْا عما أُمِروا به أن الله -سبحانه- يقذف في قلوبهم الوهن.

والمعنى أن الله يجعل فيهم أيضًا الوهن، والوهن كما هو ظاهر ومفسر في اللغة هو الضعف؛ كما قال تعالى في شأن الأم: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) [لقمان: 14] ضَعفًا على ضَعفٍ، ولكن جاء السؤال أيضًا من بعض الصحابة -رضي الله عنهم-: وما الوهن يا رسول الله؟ لعله سبق إلى ذهن الحاضر أن الوهن له معنى محدد، وقد سأل عنه، فجاء بيان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بيانًا أكثر مما تقتضيه اللفظة اللغوية، فقال: "الوهن هو حب الدنيا وكراهة الموت"، والمعنى في ذلك، وإن كان كل منهما يؤدي إلى الآخر، لكن يكون في وصف هذه الحال أن ثمة نوعًا من الوهن وهو أن يكون ثمة تعلق بالدنيا، وكراهية للموت، وليس المقصود في قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في تعريفه للوهن بأنه حب الدنيا وكراهية الموت.

المعنى الظاهر أن الإنسان لا يحب الدنيا، وأن الإنسان يكره الموت، فليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود منه الجانب السيئ الذي يحمل الإنسان على حب الدنيا وأموالها، وحب البقاء فيها على سبيل الدعة والقعود عن العمل، ونسيان الآخرة، وليس المقصود بكراهية الموت المعنى الظاهر لأول وهلة فكلنا يكره الموت؛ كما قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- لَمَّا سمِعت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كرِه لقاء الله كره الله لقاءه"، قالت: أكراهية الموت، فكلنا يكره الموت"، فوصف النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هذا المعنى وشرحه بأنه ليس هو المعنى الظاهر من كراهية الإنسان الطبيعية للموت، ولكن المعنى قال: إن المؤمن إذا حضره أجله، وبُشِّر بما عند الله من الكرامة، أحب لقاء الله (تعجَّل الموت) كأنما يقول للملائكة مع ملك الموت: عجلوا بقبض الروح؛ كيما أنتقل للقاء ربي، وأنال ما وعدني ربي من الكرامة، قال: وأما الفاجر، فإنه إذا حضره الموت ورأى ما أعد له من سخط الله وعقوبته، كره الموت وكره هذه النقلة، وكره الله لقاءَه.

وهكذا هو المعنى في هذا الحديث أن المؤمنين لو صدقوا في إصلاح أنفسهم وإصلاح دنياهم، وتشوفوا إلى ما عند الله، فلن تكون الدنيا محبوبة عندهم لذاتها، فهم يعمرونها كما أمر الله -جل وعلا-، ويهيؤونها بالخير والعدل، ونشر البر، وإيتاء الحقوق والعدل، ومنع الظلم وتهيئة الأحوال على ما أرد الله -جل وعلا-، وهم بذلك على نسق ما وصف الله نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107].

فهم في هذه الدنيا رحمة على الجميع؛ على المسلمين، وعلى غير المسلمين، على الكائنات من الحيوانات والطير والوحش، وعلى غير ذلك.

فهم في كل مجال يسيرون فيه ينشرون الخير والبر، ويحسنون إلى الجميع، ولذلك كان الصحابة -رضي الله عنهم- على هذا المنوال الكريم، طلَّقوا الدنيا ولم يحبوها لذاتها، وتشوَّفوا لموعود الله، فآتاهم الله في الدنيا وسيؤتيهم الآخرة بفضله وإحسانه جل وعلا، ولذلك لَمَّا وصف أحد القادة من غير المسلمين جيشَ المسلمين وهو يُبين لرئيسه ومَلِكِه، قال له: نواجه قومًا يحبون الموت كما يحب جندك الحياة، فأرادوا الموت شهادةً في سبيل الله ونُصرة لدينه -جل وعلا-، فوهبهم الله الحياة، ولكن ليست أي حياة، وإنما هي الحياة الكريمة حياة العز والشرف.

وبهذا يتبيَّن، أن هذا الوصف النبوي البليغ يشخص أسباب ضعف المسلمين، وكيف أنهم إن التفتوا إلى الدنيا ولم يقوموا بما أوجب الله عليهم فيها، فإنهم سينالون ضد ما أرادوا، وسيُسلط عليهم أعداءهم، وهذا المشهد تكرر في أحقاب متوالية في الدول الإسلامية من بعد عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يومنا هذا، فهو مشاهد في أحوال الدولة الأموية والعباسية، وما بعدها من الدول، وما حصل للمسلمين في الأندلس بعد أن أقاموا فيها حكم الله، ونشروا العدل وازدهرت حضارة أمة الإسلام، وكانت المكتشفات والمخترعات، وما حصل لهم من الحضارة التي نُقِلت إلى أوروبا مما هو مشاهد إلى يومنا هذا، وإنما نُقِض ذلك حينما خالفوا المعادلة الإسلامية في قيام الدول واستمرارها، واستبدلوا بذلك حب الدنيا وكراهية الموت؛ فإنهم في بادئ أمرهم كانوا غير متعلقين بالدنيا، وإنما متعلقون بالآخرة والموت عندهم؛ كما قال الله -جل وعلا-: (وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ) [آل عمران: 158]، فآتاهم الله الدنيا وهيَّأ لهم من الديار والأموال وأنواع النعم، وبقوا على عز وشرف حقبة من القرون، بضعة قرون وحكم الإسلام ظاهر بيِّن، فلما قلبت المعادلة، وصاروا إلى الدعة، وصاروا عالة على المجتمعات الإنسانية، صار ما صار من نصرة الأعداء والتسلط عليهم، وأُقيمت على سبيل المثال في الأندلس محاكم التفتيش التي شهدت من أنواع الظلم والبغي والقتل والسجن والتعذيب، ما حفلت به سجلات التاريخ.

ومهما يكن من أمر ، فهذا النص النبوي نصح نبوي إلى أمة الإسلام بأن يلتفتوا إلى ما فيه عزهم وشرفهم وحسن عاقبتهم، وهو استقامتهم على دين ربهم، فإنهم إن فعلوا آتاهم الله الدنيا وحسن ثواب الآخرة.

الكلمة الشهرية
بشرى لأهل الإستقامة

أقرأ المزيد
القائمة البريدية