{الخوف من الله }
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ،نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،ثم أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، ما خاب عبدٌ جعَلَ مطيته في هذه الدنيا إلى ربه تقواه، جعلني الله وإياكم ممن عمَّر بالتقوى قلوبهم، وهذبت جوارحهم، إن ربي رحيم ودود.
إنَّ من مقتضيات الإيمان بالله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي له الملك وحده، وبيده الأمر وحده، وإليه يرجع الأمر كله، الخوف من ذي الجلال والإكرام، ودوام الرهبة منه -سبحانه وتعالى-.
يقول الله -عز وجل-: (وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران:175]، الخوف من الله يورث صاحبه متى كان خوفا معتدلا التقوى والورع في الدنيا، أما إذا تجاوز الخوف حد الاعتدال وقع صاحبه في القنوط حينئذٍ، والعياذ بالله!.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "القلب في سيره إلى الله -عز وجل- بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيِّد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر".
إن الخوف من الله أدب من آداب الإسلام، بل عبادة عظيمة من العبادات تعلّم الإنسان الخضوع لله -عز وجل-، والعزة على من سواه، تعوّد العبد المراقبة لخالقه.
الخوف من الله ، لا يراد به ما يخطر بالبال من الرعب، كاستشعار الخوف من الأسد، بل إنما يراد بالخوف الكف عن المعاصي وتحري الطاعات؛ ولهذا قيل: لا يُعَدُّ خائفاً من لم يكن للذنوب تاركاً، ويؤيد هذا المعنى تفسير ابن عباس -رضي الله عنهما- للخائف بقوله: "الخائف من ركب طاعة الله -تعالى- وترك معصيته".
نعم يا عباد الله ؛ إن الذي يخاف مقام ربه لا يقدم على معصيته، فإذا أقدم على معصية بحكم ضعفه البشري أو وقعت منه كبوة أو هفوة قاده خوف مقام ربه، هذا المقام الرهيب الجليل، قاده إلى الندم، قاده إلى الاستغفار والتوبة، فظل في دائرة الطاعة والخشوع.
روى عطاء -رضي الله عنه- أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- ذكر ذات يوم وفكر في القيامة والموازين والجنة والنار وصفوف الملائكة وطي السماوات ونسف الجبال وتكوير الشمس واندثار النجوم، فقال -رضي الله عنه-: "وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ خَضِرًا مِنْ هَذِهِ الْخَضِرِ، تَأْتِي عَلَيَّ بَهِيمَةٌ فَتَأْكُلُنِي وأني لم أخلق؛ فَنَزَلَتْ: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن:46]".
إن عباد الله الخائفين من ربهم -عز وجل- الذين عبروا إلى ضفة النعيم والتكريم بعد أن كفوا أنفسهم عن الهوى، وضبطوها بالصبر على إيثار الخيرات، ولم يغتروا بزخارف الدنيا، لهم ما وعدهم ربهم بقوله: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات:40-41]، وقوله -سبحانه-: (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:38].
إن الله -سبحانه وتعالى- ينفي عنهم أهوال القيامة وخوفها، لا خوف عليهم من الضلالة في الدنيا، ولا حزن من الشقاوة في الآخرة؛ لأنهم ساروا في دنياهم على الصراط المستقيم، فأخبرهم ربهم بالأمن والأمان في يوم الخوف الرهيب.
إن الخوف من الله ، ليس هربا منه-سبحانه وتعالى-، أو إعراضا عنه؛ بل هو إحساس بعظمته -سبحانه-، وهيبته، ورهبته، وجلاله؛ فيزداد العبد في الطاعة والاعتصام بحبل الله -تعالى-.
سألت عائشة -رضي الله عنها- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) [المؤمنون:60]، أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر ومع مع ذلك يخاف الله -تعالى-؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا، ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو مع ذلك يخاف ألا يتقبل منه".
يقول الحسن البصري -رحمه الله- في شأن هؤلاء: "عملوا والله بالطاعات، واجتهدوا فيها، وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحسانا وخشية، وإن المنافق جمع إساءة وأمنا".
عباد الله: إن المسلم يوم يصطحب هذه العبادة العظيمة، عبادة الخوف من ذي الجلال والإكرام، فإنه بخوفه يستحضر جملة من المعاني، فهو يخاف الموت قبل أن يوفق إلى توبة نصوح، وعمل صالح مقبول يلقى به ربه -عز وجل-، ويخاف إذا تاب من نقض التوبة بعد التوفيق إليها، ويخاف من عدم الوفاء بحقوق الله تعالى، يخاف على قلبه أن تزول رقته وتتبدل قسوة وغلظة، يخاف الانحراف عن الجادة والبعد عن الطريق المستقيم، يخاف يوم تفتح عليه الدنيا من الاغترار بزخرفها ومُلهياتها ومَلذاتها، يخاف من سوء الخاتمة عند الموت، يخاف أن يحال بينه وبين جنة الله -عز وجل- فيكون من أهل النار.
إن على المؤمن ،أن يواصل استشعار الخوف من الله -تعالى-، وليتذكر أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان أشد خوفا من الله -تعالى- ورهبة من جنابه -سبحانه-، وكان يقول لأصحابه -رضوان الله عليهم-: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) [هود:103].
فنسأل الله -عز وجل- أن يسلك بنا جميعا طريق أهل الخوف والخشية، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.