الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،أما بعد:
روى البخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شد المئزر، وأحيا ليله، وأيقظ أهله".{رواه البخاري.}
ورويا عنها -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده".{متفق عليه}
عباد الله: إن الله -سبحانه وتعالى- قد تفضل عليكم بأن أبلغكم أيام رمضان المشرقة، ولياليه المباركة، وإن ذلكم لنعمة كبرى واجبة الشكر، وشكرها يتجلى في اغتنامها، فاتقوا الله واغتنموها بالأعمال الصالحة.
اغتنموا ما بقي فان أحدكم لا يدري أين هو من رمضان القادم، وأين رمضان القادم منه، وإن الله -سبحانه وتعالى- لما أعطى أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- ليلة القدر حددها في ليال قليلة، وأخفاها بين غضون تلكم الليالي، أخفاها إهابةً بكم وحثاً لكم بأن تستمروا في طاعته، وتستغرقوا في مناجاته، ولتكبروه تعالى على ما هداكم له، لتفوزوا بجزاء الشاكرين، وعظيم مثوبة الطائعين.
يقول صلى الله عليه وسلم: "من قام رمضان وصامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".
{متفق عليه}
ويقول: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".{رواه البخاري }
ويقول جل وعلا : (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)[القدر: 5].
إن مما شرعه الله في هذا الشهر المبارك: زيادة الاجتهاد في العشر الأواخر منه؛ لأنها ليالي الإعتاق من النار، لمن استحقوا دخول النار، إذا تابوا من ذنوبهم، واجتهدوا في هذه الليالي بنية صالحة.
ولأنها الليالي التي كان اجتهاد النبي -صلى الله عليه وسلم- يتزايد فيها، فكان يحييها بالتهجد والقيام، وكان يعتكف في المسجد للتفرغ للعبادة.
ففي الاجتهاد فيها اقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ، وعملٌ بقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب: 21].
ولأنها الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر، التي قال الله -تعالى- فيها: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ) أي: العمل في هذه الليلة خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
وقيامها إنما يحصل يقيناً بالقيام في كل ليالي الشهر، ولا سيما ليالي العشر الأواخر، فهي أرجى لتحريها وآكد لموافقتها.
فهي لم تحدد في ليلة معينة من الشهر؛ لأن الله -سبحانه- أخفاها لأجل أن يكثر اجتهاد العباد في تحريها، ويقوموا ليالي الشهر كلها لطلبها، فتحصل لهم كثرة العمل، وكثرة الأجر، وليتميز المجد من الكسلان.
فاجتهدوا -رحمكم الله- في هذه العشر التي هي ختام الشهر، وأيام الإعتاق من النار.
إنه شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار.
فالمسلم الذي وفقه الله للعمل في هذا الشهر، ومرت عليه مواسم الرحمة والمغفرة والعتق من النار، وقام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، حريٌّ أن يفوز بكل خيرات، هذا الشهر ونفحاته، فينال الدرجات العالية، بما أسلفه في الأيام الخالية.
ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخص العشر الأواخر من رمضان بأعمال يعملها فيها، منها: أحياء لياليها بالتهجد والقيام.
ومنها: أنه كان يوقظ أهله للصلاة، وكل صغير وكبير يطيق الصلاة، وهذا شيء أهمله اليوم كثير من الناس مع أهلهم وأولادهم، فيتركونهم يسهرون على اللعب واللهو، يسرحون في الشوارع، أو يجلسون في البيوت يشاهدون الأفلام والمسلسلات، ويسمعون الأغاني والمزامير طيلة ليالي رمضان، فلا يستفيدون منه إلا الآثام، وإذا جاء النهار ناموا حتى عن أداء فرائض الصلوات؛ لأنهم تربوا على عدم احترام رمضان، وهذا نتيجة إهمال أوليائهم، فبئست التربية، وبئست الولاية، وسيسألهم الله يوم القيامة عن إهمال رعيتهم، وإضاعة مسؤوليتهم، قال صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
ومن الأعمال التي كان صلى الله عليه وسلم يختص بها العشر الأواخر: الاعتكاف، وهو لزوم المسجد للعبادة، وعدم الخروج منه إلا لحاجة ضرورية، ثم يرجع إليه.
كان صلى الله عليه وسلم يعتكف في هذه العشر قطعاً لأشغاله، وتفريغاً لباله، وتخليا لمناجاة ربه وذكره ودعائه.
فاجتهدوا -رحمكم الله- في هذه العشر التي هي ختام الشهر، والتي هي أرجى ما يكون لموافقة ليلة القدر، وأكثروا من الجلوس في المساجد للذكر وتلاوة القرآن إذا لم تتمكنوا من الاعتكاف.
{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)[آل عمران: 133-136].
وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه ،إنّه ولي ذلك والقادر عليه.