الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فإن التفقه في الدين من أفضل الأعمال، وهو علامة الخير؛ قال صلى الله عليه وسلم: من يرد اللهُ به خيرا، يُفَقِّهْهُ في الدين. متفق عليه؛ وذلك لأن التفقه في الدين يحصل به العلم النافع الذي يقوم عليه العمل الصالح. والعلم في الإسلام يسبق العمل

المزيد
آخر الأخبار

{تدبّر القرآن }

الحمد لله العلي الأعلى، أحمده سبحانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثَّرى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله إمام المرسلين وخاتم النبيين وخيرُ الوَرى، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أئمة الهُدى ونجوم الدُّجَى.

أما بعد:

عباد الله: لقد منَّ الله على هذه الأمة بإنزال كتابه العزيز قيِّمًا مباركًا لم يجعل له عِوجًا، فكان كتابَ هدايةٍ للتي هي أقوم، دلَّ الله به العبادَ إلى كل خيرٍ تطيبُ به حياتُهم، وتسعدُ به نفوسُهم، وتحسُن به عاقبةُ أمرهم، فأحيا به مواتَ القلوب، وأضاء به ظلماتُ الدروب، وكان كما قال الله في وصفه: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص: 29].

وإن وجوه بركته -يا عباد الله- لا حدَّ لها، لا حدَّ يحُدُّها ولا مُنتهى لها، غير أن سبيلَ هذه البركة والطريق إلى إدراكها هو طريقُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي جعله الله لنا أُسوةً نقتدي به، ونترسَّم خُطاه، ونهتدي بهديه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21].

وقد أوضح -صلى الله عليه وسلم- لأمته النهجَ الأمثلَ للانتفاع بالقرآن والاهتداء بهديه؛ فبهما تتجلَّى بركتُه، ويستبينُ سبيلُ العمل به، فبيَّن ما للاشتغال بتلاوة هذا الكتاب من بركةٍ تغمُر من يتلوه بالحسنات والأجر الضافِي، وترقَى به إلى المقامات العالية، وتُبلِّغُه المنازلَ الشريفة التي أعدَّها الله لحمَلَته يوم القيامة، وذلك في مثل قوله -صلوات الله وسلامه عليه-: "اقرأوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه". أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي أُمامة -رضي الله عنه-.

وفي مثل قوله -عليه الصلاة والسلام-: "يُؤتَى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدُمه سورةُ البقرة وآل عمران تُحاجَّان عن صاحبهما". أخرجه مسلم في صحيحه من حديث النواس بن سمعان -رضي الله عنه-.

وفي مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضعُ به آخرين". أخرجه مسلم في الصحيح من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.

وفي مثل قوله: "الذي يقرأ القرآنَ وهو ماهرٌ به مع السفَرَة الكرام البَرَرة، والذي يقرأ القرآنَ ويتتعتَعُ فيه وهو عليه شاقٌّ له أجران". أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

وفي مثل قوله -عليه الصلاة والسلام-: "يُقال لصاحب القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتقِ ورتِّل كما كنتَ تُرتِّل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آيةٍ تقرأ بها". أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي وأبو داود في سننهما من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- بإسنادٍ صحيح.

غير أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقصُر البيانَ على هذا؛ بل بيَّن للأمة أيضًا أن بركة هذا الكتاب وحقيقةَ الانتفاعِ به وسبيلَ الاهتداء بهديه إنما تكون لمن لم يجعل أكبر همِّه ومبلغَ علمه التلاوةَ وحسب؛ بل أخذ بحظِّه من تدبُّره وتفهُّم معانيه؛ إذ هو المقصود من القراءة، والغايةُ من التلاوة.

وصفتُه -كما قال أهل العلم-: أن يشغل قلبَه بالتفكُّر في معنى ما يلفِظُ به، فيعرفَ معنى كل آية، ويتأمَّل ما فيها من الأوامر والنواهي، ويعتقدَ قبولَ ذلك، فإن كان مما قصَّر فيه فيما مضى اعتذَرَ واستغفرَ، وإذا مرَّ بآية رحمةٍ استبشَرَ وسأل، أو عذابٍ أشفقَ وتعوَّذ، أو تنزيهٍ نزَّه وعظَّم، أو دعاءٍ تضرَّع وطلبَ.

وقد كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذا النصيبُ الأوفَى والقدحُ المُعلَّى؛ فقد أخبر حذيفةُ بن اليمان -رضي الله عنه- أنه صلَّى معه -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة، فافتتحَ البقرة، قال: فقلتُ: يركعُ عند المائة، ثم مضى، فقلتُ: يُصلِّي بها، فمضى، فقلتُ: يركعُ بها، ثم افتتحَ النساءَ فقرأها، ثم افتتحَ آل عمران فقرأها، يقرأ مُترسِّلاً، إذا مضى بآيةٍ فيها تسبيحٌ سبَّح، وإذا مضى بسؤالٍ سأل، وإذا مرَّ بتعوُّذٍ تعوَّذ". أخرجه مسلم في صحيحه.

وقد بلغ -عليه الصلاة والسلام- في تدبُّر القرآن، وكمال التفكُّر فيه، واستحضار معانيه في القلب، واستشعار عظمة ربه المُتكلِّم به سبحانه بلغ مبلغًا حملَه على أن قام في ليلةٍ بآية واحدةٍ يُكرِّرها، كما جاء في الحديث -الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والنسائي وابن ماجه في سننهما، والحاكم في مستدركه بإسنادٍ صحيحٍ- عن أبي ذرٍّ الغفاري -رضي الله عنه- أنه قال: قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بآيةٍ حتى أصبح، بها يركع، وبها يسجُد، وهي قوله سبحانه: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة: 118].

ولا عجبَ أن يكون لهذا الهدي النبوي أثرُه البالغُ في قلوبِ وعقول سلفنا الصالح -رضوان الله عليهم-؛ فهذا زيدُ بن ثابتٍ -رضي الله عنه- يسأله رجلٌ فيقول: كيف ترى في قراءة القرآن في سبع؟! قال زيدٌ: ذلك حسن، ولأَن أقرأه في نصف شهرٍ أو عشرين أحبُّ إليَّ، وسلْني: لمَ ذلك؟! قال: إني أسألك. قال زيدٌ: "لكي أتدبَّر وأقِف عليه". أخرجه الإمام مالك في الموطأ، وعبد الرزاق في مصنفه.

وهذا ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول له نصرُ بن عمران: إني سريعُ القراءة -وفي لفظٍ: إني سريع القرآن-، إني أقرأ القرآن في ثلاث، فيقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لأَن أقرأ البقرةَ في ليلةٍ أتدبَّرُها وأُرتِّلُها أحبُّ إليَّ أن أقرأ كما تقرأ".

وهذا عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يقول له رجلٌ: إني لأقرأ المُفصَّل في ركعة، فيقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "هَذًّا كهذِّ الشعر؟! إن أقوامًا يقرؤون القرآن لا يُجاوِزُ تراقِيَهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخَ فيه نفع".

وقال -رضي الله عنه- أيضًا: "اقرأوا القرآن وحرِّكوا به القلوب، وقِفوا عند عجائبه، ولا يكن همُّ أحدكم آخرَ السورة".

وقد أعرض كثيرٌ من الناس في أعقابِ الزمن عن هذا الهدي النبوي والطريق السلفي؛ فصار شُغل أحدهم الشاغل -لا سيما في شهر رمضان- الإكثارَ من ختم القرآن في عجلةٍ شديدة، وإسراعٍ لا نظيرَ له دون اهتمامٍ بتدبُّره وتفهُّم معانيه، وهو أمرٌ جعله ابن الجوزي -رحمه الله- من تلبيس إبليس عليهم في قراءة القرآن، فقال: "وقد لبَّس -أي: إبليس- على قومٍ بكثرة التلاوة، فم يهُذُّون هذًّا من غير ترتيلٍ ولا تثبُّت، وهذه حالةٌ ليست بمحمودة، وقد رُوِي عن جماعةٍ من السلف أنهم كانوا يقرأون القرآن في كل يومٍ أو في كل ركعة، وهذا يكون نادرًا منهم، ومن داومَ عليه فإنه -وإن كان جائزًا- إلا أن الترتيل والتثبُّت أحبُّ إلى العلماء، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يفقَهُ من قرأه في أقلَّ من ثلاث". أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه في سننهم بإسنادٍ صحيح.

قال: "وقد لبَّس إبليس على قومٍ من القرَّاء، فهم يقرؤون القرآنَ في منارةِ المسجد بالليل بالأصوات المجتمعة المرتفعة الجزءَ والجزئين، فيجمعون بين أذى الناس في منعهم من النوم، وبين التعرُّض للرياء، ومنهم من يقرأ في مسجده وقت الأذان؛ لأنه حين اجتماع الناس في المسجد.

ومن أعجبِ ما رأيتُ فيهم: أن رجلاً كان يُصلِّي بالناس صلاة الصبح يوم الجمعة، ثم يلتفت فيقرأ المعوذتين ويدعو دعاءَ الختمة، ليُعلِمَ الناس أني قد ختمتُ الختمةَ! وما هذه طريقة السلف؛ فإن السلفَ كانوا يستُرون عبادتَهم، وكان عملُ الربيع بن خُثَيْم كله سرًّا، فربما دخل عليه الداخلُ وقد نشرَ المصحفَ فيُغطِّيه بثوبه، وكان أحمد بن حنبل يقرأُ القرآنَ كثيرًا، ولا يُدرَى متى يختِم". انتهى كلامه -رحمه الله، وجزاه خيرًا على نُصحه وبيانه وتحذيره وتذكيره-.

فاتقوا الله -عباد الله-، وليكن لكم في أمر الله وفيما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرَ باعثٍ على تدبُّر كتاب الله تعالى؛ فإن التدبُّر الباعثَ على العمل هو المقصود الأعظم الذي حثَّ عليه ربُّنا أبلغَ حثٍّ بقوله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء: 82].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم.

الكلمة الشهرية
بشرى لأهل الإستقامة

أقرأ المزيد
القائمة البريدية