الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الانبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين ، أمَّا بَعْدُ:
إِنَّ مِنْ عِظَمِ شَأْنِ الْأَمَانَةِ أَنَّ اللهَ عرَضَها عَلَى أَعْظَمِ مَخْلُوقَاتِهِ، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)[الأحزاب: 72].
اوالأمانة ضِدُّ الْخِيَانَةِ، وَهِيَ تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَا عُهِدَ بِهِ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الاجْتِمَاعِيَّةِ، وَالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْعِبَادَاتِ، وَالْوَدَائِعِ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْوَدَائِعِ كَتْمُ الْأَسْرَارِ.
وَجَاءَ الْأَمْرُ بِحِفْظِ الْأَمَانَاتِ وَرِعَايَتِهَا فيِ قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ)[البقرة: 283]، وَقَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)[النساء: 58]، وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا؛ أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا؛ أَتْلَفَهُ اللَّهُ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، وَقَالَ أَيْضًا: "أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ).
وَتَضْيِيعُ الْأَمَانَةِ عَلَامَةٌ عَلَى ضَعْفِ الْإِيمَانِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "لَا إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ)، بِلْ هُوَ مِنْ خِصَالِ الْمُنافِقِينَ، عِيَاذًا بِاللهِ مِنْ هَذَا الخُلُقِ السَّيِّءِ؛ لقِوَلْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).
إِنَّ مَجَالاتِ الْأَمَانَةِ كَثِيرَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ، فَمِنْ أَهَمِّهَا: التَّكَالِيفُ وَالْحُقُوقُ التِي أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- بِرِعَايَتِهَا وَصِيَانَتِهَا، مِمَّا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالدِّينِ، أَوِ النُّفُوسِ، أَوِ الْعُقُولِ، أَوِ الْأَعْرَاضِ، أَوِ الْأَمْوَالِ.
وَمِنَ الْأَمَانَاتِ الْعَامَّةِ التِي يَجِبُ تَقْوىَ اللهِ فيِهَا: الْوَظَائِفُ بِشَتَّى أَنْوَاعِهَا، وَالْمَسْؤُولِيَّاِتُ بِمُختَلَفِ صُوَرِهَا، فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ "يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُؤْتَمُنُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ؛ الْأَمْوَالَ الْعَامَّةَ التِي تَعُودُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ -تَعَالَى- حِفْظَهَا كَمَا يَحْفَظُ الْإِنْسَانُ مَالَهُ وَأَشَدّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ؛ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(رَوَاهُ مُسْلِم).
وَامَتَدَحَ الأَمِينَ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، بِقَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْخَازِنُ الأَمِينُ الَّذِي يُؤَدِّي مَا أُمِرَ بِهِ طَيِّبَةً نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، وَجَاءَ تَحْذِيرُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ خِيَانَةِ الْوِلايَةِ الْعَامَّةِ بِقَوْلِهِ: "لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرِهِ، أَلَا وَلَا غَادِرَ أَعْظَمُ غَدْرًا مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ"(رَوَاهُ مُسْلِم).
وَمِنْ عَلامَاتِ سُوءِ الزَّمَانِ وَفَسَادِ الْمُجْتَمَعِ: ضَيَاعُ الْأَمَانَةِ، وَالتَّهَاوُنُ فِي الْمَسْؤُولِيَّةِ، وَتَقْدِيمُ الْمَصَالِحِ الذَّاتِيَّةِ عَلَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَفِي مَقَامِّ الذَّمِّ يَقُولُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ الْفُحْشَ وَالَتَّفَحُّشَ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُخَوَّنَ الأَمِينُ، وُيؤْتَمَنَ الْخَائِنُ حَتَّى يَظْهَرَ الْفُحْشُ وَالتَّفَحُّشُ، وَسُوءُ الْجِوَارِ، وَقَطِيعَةُ الأَرْحَامِ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ).
فَفِي آخِرِ الزَّمَانِ يَكُونُ الْأَمِينُ مَعْدُومًا أَوْ شِبْهَ مَعْدُومٍ بَيْنَ النَّاسِ؛ لِذَا عَدَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَلِكَ عَلَامَةً عَلَى اقْتِرَابِ السَّاعَةِ، كَمَا فِي قوَلْهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ؛ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ"، قيل: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ "إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ؛ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)