الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
يقول تعالى في كتابه الكريم : (قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ) [النور:30].
تأمل -أخي المسلم- هذه الآية: (قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ)، أمرٌ من الله لنبيِّه أن يخاطب أهل الإيمان المستجيبين لله ورسوله السامعين المطيعين القابلين لأوامر الله المنفذين لها: (قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـارِهِمْ)، أمرهم بالغض من أبصارهم، لم يقل: غضوها، وإنما قال: غضوا من أبصاركم، أي: غضوا من أبصاركم فلا تنظروا إلى ما حرُم عليكم النظر إليه، واجعلوا النظرَ فيما ينفعكم، لا فيما يضرُّكم، وسخِّروا تلك الجارحةَ فيما ينفعكم، (إِنَّ السَّمْعَ وَلْبَصَرَ وَلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء:36].
(يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ)، فكان غضّ البصر سببًا لحفظ الفرج؛ لأن البصر ينفذ إلى القلب، وما تزال تلك اللحظات والنظرات تَتَتابع حتى توقِع في القلب مرضَ الشهوة، فيتحرَّك القلب لذلك الأمر، والقلب هو الحاكم على الجوارح، إذا صلح صلح الجسد كلُّه، وإذا فسد القلبُ فسد الجسد كلُّه، كما قال: "ألا إن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
فالبصر منفَذ إلى القلب، فما تزال تلك النظرات تلك اللحظات تتتابع حتى تحرِّك شهواتِ القلب، فيقع العبد في المحذور من حيث لا يشعر، ولذا قال الله: (يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ)، فإن حفظ الفرج إنما يكون نتيجةً لغض البصر والبعد عن كل وسيلة تفضي إليه، (ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) [النور:30]، ذلك أزكى لقلوبهم، أزكى لنفوسهم، أزكى لأخلاقهم، ذلك أزكى لهم من الوقوع في الرذائل، فالأوامر الشرعية هي سببٌ لزكاة القلوب وصلاح القلوب واستقامتها، (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) [النور:30]، خبير بأعمال العباد، عالمٌ بسرِّهم وعلانيتهم، لا يخفى عليه شيء من أحوالهم، (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:14].
ثم قال: (وَقُل لّلْمُؤْمِنَـاتِ) أراد -جل وعلا- أن يبيِّن أن الأمر عامّ للجميع، وإن كان يكفي الخطاب الأول، لكن ذكر النساء بعد ذكر الرجال ليكون الأمر عامًا ولينتبه كلٌّ من الجنسين: (وَقُل لّلْمُؤْمِنَـاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النور:31].
أيتها المسلمة، أيها المسلم: كلٌّ منَّا مخاطبٌ بهذا، فالمرأة المسلمة مأمورة بغض بصرها وأن لا تتطلع إلى النظر إلى الرجال، وكذلك الرجل مأمور بغضِّ بصره وأن لا يتطلع بالنظر إلى النساء، فغضّ البصر سبب لزكاة القلب واستقامة الأحوال. النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه: "إياكم والجلوسَ في الطرقات"، قالوا: يا رسول الله: مجالسنا ما لنا منها بدّ، قال: "إن كنتم لا بد فاعلين فأعطوا الطريق حقَّه"، قالوا: وما حق الطريق؟! قال: "كف الأذى، وغض البصر، وإفشاء السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر".
فمن حقّ الطريق ومن الحقّ الواجب على الجالس في الطريق أن يكون غاضًّا لبصره، لا يؤذي المؤمنات بنظره إليهن، فإن ذلك من الأذى لا من حقّ الطريق، فحق الطريق أن تغضَّ بصرك عن النظر إلى ما حرّم الله عليك. والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لعلي –رضي الله عنه-: "لا تُتْبع النظرَةَ النظرة؛ فإن لك الأولى وليست لك الثانية"، قد تكون نظرةَ فجأة لكن النبي قال له: "لا تتبع النظرةَ النظرة؛ فلك الأولى -أي: عفوٌ- وليست لك الثانية".
وقال جرير بن عبد الله: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن نظرة الفجأة، فقال: "اصرفْ بصرك"، فأمره بصرف بصره، وفي صرف البصر كفّ وتحصين للنفس من الإقدام على الحرام.
أيها المسلم: إن غضّك بصرَك عندما تطَّلع إلى ما لا يحل لك النظر إليه يعقبك خيرًا وفضلاً، ففي الحديث: "من نظر إلى محاسن امرأة ثم غضّ بصره أورثه الله إيمانًا في قلبه يجد حلاوة ذلك".
أيها المسلم: فاتق الله في نفسك، واتق الله في محارم المسلمين، واعلم أن أيّة إساءةٍ منك لعورات المسلمين قد يعود الأمر عليك عكسَ ما تريد، فعُفَّ عن نساء الغير، تعفّ نساؤك، وابتعد عن النظر إلى عورات الآخرين لتحمي بذلك عرضَك، وتصون بذلك كرامتك.
أيها المسلم: إن هذا النظر قد يوقعك في المهالك، فتنظر إلى ما لا قدرةَ لك عليه، ولا صبر لك عنه، فيمرض قلبك مرضًا تتمنَّى العافيةَ من بلائه، فإن أمراض الشهوات لا تزال بالقلب حتى توقعه في الحرام، ولذا قال الله مؤدبًا لنساء نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (فَلاَ تَخْضَعْنَ بِلْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً) [الأحزاب:32]، فنهاهن عن خضوع القول للرجال؛ لأن إخضاع المرأة قولَها ومحاولة ترقيق كلامها أمامَ رجل أجنبي عنها قد يؤدي إلى حدوث أمور لا تحمد عقباها.
فليتَّق المسلم ربه، وليحافظ على سلامة دينه، وليغضّ بصره عما حرَّم الله عليه، وليكن حريصًا على صيانة عورات المسلمين، بعيدًا عن كل ما يثير الفتنة. وعلى النساء المسلمات تقوى الله في أنفسهن، والبعد عما يثير غرائز الرجال.
أسأل الله أن يوفقني وإياكم لما يحبه ويرضاه.