الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،أما بعد:
فإنّ مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ، وَسِمَةُ الصَّادِقِينَ وَدَيْدَنُ الْمُوَحِّدِينَ، وَهِيَ عَلَامَةٌ عَلَى إِيمَانِ صَاحِبِهَا؛ فَالْمُؤْمِنُ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ عَلَى تَقْصِيرِهِ فِي طَاعَةِ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ يُدْرِكُ أَنَّهَا مَيَّالَةٌ إِلَى هَوَاهَا، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُحَاسِبْهَا وَيَحْجِزْهَا عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ قَادَتْهُ إِلَى الْهَلَاكِ وَالْخَسَارَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ وَلِذَلِكَ عَلَّمَنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي خُطْبَةِ الْحَاجَةِ أَنْ نُكَرِّرَ دَائِمًا قَوْلَهُ: "وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا"(أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ).
وَالنَّاسُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ تَسَلَّطَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فَأَطَاعَهَا حَتَّى أَرْدَتْهُ فِي الْمَهَالِكِ فَأَصْبَحَ أَسِيرًا لَهَا تُحَرِّكُهُ حَيْثُ شَاءَتْ، وَتَأْخُذُ بِيَدَيْهِ حَيْثُ اشْتَهَتْ، وَهَذَا حَالُ أَهْلِ الطُّغْيَانِ، كَمَا ذَكَرَ رَبُّنَا فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النَّازِعَاتِ:38-42].
وَقِسْمٌ ظَفِرَ بِنَفْسِهِ، وَانْتَصَرَ عَلَيْهَا، وَأَمْسَكَ زِمَامَهَا، وَأَحْكَمَ لِجَامَهَا، فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ؛
وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- النَّفْسَ فِي الْقُرْآنِ بِثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ: الْمُطْمَئِنَّةِ، وَالْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، وَاللَّوَّامَةِ؛ فَالنَّفْسُ إِذَا سَكَنَتْ إِلَى اللَّهِ وَاطْمَأَنَّتْ بِذِكْرِهِ، وَأَنَابَتْ إِلَيْهِ، وَامْتَثَلَتْ أَوَامِرَهُ، وَاجْتَنَبَتْ نَوَاهِيَهُ، وَاشْتَاقَتْ إِلَى لِقَائِهِ، وَأَنِسَتْ بِقُرْبِهِ، فَهِيَ مُطْمَئِنَّةٌ، وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا عِنْدَ الْوَفَاةِ: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي)[الْفَجْرِ:27-30].
وَإِذَا كَانَتِ النَّفْسُ بِضِدِّ ذَلِكَ فَهِيَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، تَأْمُرُ صَاحِبَهَا بِمَا تَهْوَاهُ مِنْ شَهَوَاتِ الْغَيِّ، وَدُرُوبِ الرَّدَى، وَاتِّبَاعِ الْبَاطِلِ.
وَأَمَّا النَّفْسُ اللَّوَّامَةُ فَقَدْ قِيلَ: هِيَ الَّتِي تَنْدَمُ عَلَى مَا فَاتَ، وَتَلُومُ عَلَيْهِ؛ يَقُولُ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الْحَشْرِ:18]؛ فَهَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ، وَالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِهَا، وَالْمُتَابَعَةِ لِأَعْمَالِهَا.
وَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ -تَعَالَى- بِالنَّفْسِ، وَذَكَرَهَا مَعَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ دَلَالَةً عَلَى أَهَمِّيَّتِهَا وَمَنْزِلَتِهَا، وَبَيَانًا لِضَرُورَةِ الْمُحَاسَبَةِ وَأَهَمِّيَّتِهَا، فَقَالَ -تَعَالَى-: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)[الْقِيَامَةِ:1-2]؛ فَالْإِنْسَانُ بَصِيرٌ بِعُيُوبِ نَفْسِهِ، عَالِمٌ بِدَخَائِلِهَا، وَلَوْ تَظَاهَرَ بِالْأَعْذَارِ وَجَادَلَ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَنْ يَنْفَعَهُ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا إِشَارَةً إِلَى ضَرُورَةِ الرُّجُوعِ إِلَى النَّفْسِ وَمُحَاسَبَتِهَا، وَإِصْلَاحِ عُيُوبِهَا قَبْلَ فَوَاتِ الْأَوَانِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَوْلُهُ: "الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ"(أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ).وقال حسن صحيح
وَلَقَدْ كَانَ السَّلَفُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ- أَشَدَّ النَّاسِ مُحَاسَبَةً لِأَنْفُسِهِمْ، وَاتِّهَامًا لَهَا، وَاعْتِرَافًا بِتَقْصِيرِهَا وَجَهْلِهَا، مَعَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالْقَدْرِ الْعَظِيمِ؛ أَعْمَالٌ عَظِيمَةٌ، وَأَخْلَاقٌ كَرِيمَةٌ، وَنُفُوسٌ مُسْتَقِيمَةٌ؛ هُدًى وَصَلَاحٌ، جِهَادٌ وَكِفَاحٌ، بَذْلٌ وَعَمَلٌ، جُودٌ وَكَرَمٌ، بُكَاءٌ وَنَدَمٌ، وَمُسَارَعَةٌ إِلَى الْخَيْرَاتِ، مُنَافَسَةٌ فِي الطَّاعَاتِ، وَصَفَاءٌ فِي النِّيَّاتِ؛ فَهَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ فِي الْحِسَابِ غَدًا أَنْ تُحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ؛ وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ".
وَيَقُولُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "لَا تَلْقَى الْمُؤْمِنَ إِلَّا يُعَاتِبُ نَفْسَهُ، مَاذَا أَرَدْتُ بِكَلِمَتِي؟ مَاذَا أَرَدْتُ بِأَكْلَتِي؟ مَاذَا أَرَدْتُ بِشَرْبَتِي؟".
وَيَقُولُ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا قَالَ لِنَفْسِهِ: أَلَسْتِ صَاحِبَةَ كَذَا؟ أَلَسْتِ صَاحِبَةَ كَذَا؟ ثُمَّ زَمَّهَا، ثُمَّ خَطَمَهَا، ثُمَّ أَلْزَمَهَا كِتَابَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَكَانَ لَهَا قَائِدًا".
ويَقُولُ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: "لَا يَكُونُ الرَّجُلُ تَقِيًّا حَتَّى يَكُونَ لِنَفْسِهِ أَشَدَّ مُحَاسَبَةً مِنَ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ".
هَكَذَا كَانُوا -رَحِمَهُمُ اللَّهُ- يَلُومُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَيَبْكُونَ تَقْصِيرَهُمْ، وَمَنْ لَمْ يَتَّهِمْ نَفْسَهُ عَلَى دَوَامِ الْأَوْقَاتِ كَانَ مَغْرُورًا، وَمَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا بِاسْتِحْسَانٍ فَقَدْ أَهْلَكَهَا؛ وَأَعْرَفُ النَّاسِ بِأَنْفُسِهِمْ أَشَدُّ النَّاسِ مُحَاسَبَةً لَهَا، وَرَقَابَةً عَلَيْهَا؛ (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)[فَاطِرٍ:18].
ونسأل الله تعالى أن يرحمنا برحمته، وأن يعاملنا بعفوه ولطفه، وأن يرزقنا شكر نعمته وحسن عبادته. إنّه ولي ذلك والقادر عليه .