الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فإن التفقه في الدين من أفضل الأعمال، وهو علامة الخير؛ قال صلى الله عليه وسلم: من يرد اللهُ به خيرا، يُفَقِّهْهُ في الدين. متفق عليه؛ وذلك لأن التفقه في الدين يحصل به العلم النافع الذي يقوم عليه العمل الصالح. والعلم في الإسلام يسبق العمل

المزيد
آخر الأخبار

{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ }

الحمد لله الجواد الكريم الشكور الحليم، أسبغ على عباده النعم ودفع عنهم شدائد النقم وهو البر الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل العظيم، والخير العميم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى الكريم, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين وسلم تسليما.ثم أما بعد :

عباد الله: لقد حذرنا الله -تبارك وتعالى- من مكائد الشيطان والوقوع فيها, إذ يزين الشيطان لابن آدم الأفعال القبيحة والتي تنكرها العقول قبل الشرائع, لكن لا يزال الشيطان بالإنسان حتى يورده المهالك, إذ توعد بإضلال بني آدم والوقوف لهم في كل طريق حتى يصدهم عن الصراط المستقيم (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف: 16، 17].

حتى إذا ما هلك الإنسان تبرأ منه الشيطان؛ كذلك الذي كفر بعد إيمانه وزين له الشيطان عمله (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) [الحشر: 16 - 18] هذا في الدنيا وأما في الآخرة فإنه يتبرأ من أتباعه في النار (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) [إبراهيم: 22].

لذلك أمرنا الله تعالى أن نحذر منه ونتخذه عدواً, فالعدو لا يُرجى منه خير (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) [فاطر: 6] وقال الله محذرا من اتباعه (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) [النور: 21].

عباد الله : إن الشيطان حريصٌ أشد الحرص, باذلٌ كل الجهد في إغواء الإنسان وصدِّه عن طاعة الرحمن، وهو قاعدٌ لابن آدم صداً وإغواءً وتزييناً له الباطل، روى الحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا أَصْبَحَ إِبْلِيسُ بَثَّ جُنُودَهُ, فَقَالَ : أَيُّكُمْ أَضَلَّ الْيَوْمَ مُسْلِمًا أَلْبَسْتُهُ التَّاجَ؟ قَالَ: فَيَجِيئُونَ, فَيَقُولُ هَذَا: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى عَقَّ وَالِدَيْهِ, قَالَ: يُوشِكُ أَنْ يَبَرَّهُمَا, وَيَجِيءُ هَذَا فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى طَلَّقَ امْرَأَتَهُ, قَالَ: يُوشِكُ أَنْ يَتَزَوجَ, وَيَجِيءُ هَذَا, فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى شَرِبَ الْخَمْرَ, فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ, وَيَجِيءُ هَذَا, فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى قَتَلَ, فَيَقُولُ أَنْتَ أَنْتَ, ويُلْبِسُهُ التَّاجُ".

إن عدوكم يستدرجكم ليوقعكم في أشد الأعمال قبحاً وأعظمها وزراً وأغضبها لربكم سبحانه وتعالى؛ وإن من هذه الأفعال المنكرة التي يزينها الشيطان للإنسان أن يقتل نفسه منتحراً, فيخسر بذلك آخرته كما خسر دنياه.

لقد أصبح الانتحار ظاهرة عالمية؛ إذ يُقتل قرابة مليون شخص سنوياً بسبب قتلهم أنفسهم, وليس هذا بمستغربٍ في بلاد الكفر حيث غياب الإيمان وحياة الضنك التي يعيشها الكافر, (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه: 124] فمن المعيشة الضنكة حياة الاضطراب والقلق والضيق والاكتئاب والأمراض النفسية المختلفة.

لكن العجيب أن تنتقل هذه الظاهرة إلى بلاد المسلمين؛ إذ تزايدت حالات الانتحار بين الشباب في السنوات الأخيرة بصورة تثير القلق, وتبعث على الأسى أن ينهي مسلمٌ حياته شنقاً أو بتناول السم أو بقطع شرايينه أو بإطلاق رصاصة على رأسه, حيث تطالعنا الأخبار عن حالاتٍ انتحارٍ متزايدة لأسبابٍ واهية, يقدم فيها الإنسان على قتل نفسه, مما يدل على ضعف الإيمان وغياب الإيمان بالقضاء والقدر.

هذا يقتل نفسه لأنه عاطل عن العمل, وذلك بسبب مشكلات أسرية, وهذا لأنه لم يوفق في الزواج ممن يحب, وآخر لفشله في الدراسة, وهكذا يقدم المرء على هذه الجريمة وقد ضعف إيمانه بالله إن لم يكن قد انتهى بالكلية –عياذا بالله- وبعضهم يفعل ما هو أشد من ذلك فيقتل أشخاصاً آخرين ثم يقتل نفسه بعد ذلك, وقد يكون القتلى من أقرب الناس إليه؛ كقتل أبيه أو أمه أو أولاده أو زوجته.

عباد الله: إن هذا المنتحر الذي يقتل نفسه فيعرضها لعذاب الله تعالى, ويتسبب لأهله بالأذى والضر؛ يظن -ويالسوء ظنه الفاسد الذي زينه له الشيطان- يظن أنه بقتل نفسه سيخلصها مما تعانيه من مشكلات, وخاب وخسر -والله- ماهذا بحل ولا علاج, بل هو الخسران المبين بعينه.

إن الله تعالى يقول: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ) [النساء: 29 - 31] فانظروا -يا عباد الله- إلى هذا الرب الكريم, ينهى عبده المؤمن أن يقتل نفسه، ويخبره أنه رحيم به، فلماذا يتعجل المؤمن الموت؟! لماذا يقنط من رحمة ربه؟! لماذا يجزع مما ألم به من آلام وهموم, وهو يعلم أن له رباً كريماً رحيماً؛ أرحم به من الأم بولدها؟! فهلّا وضع همومه بين يديه، ورفع مشاكله وحاجاته إليه.

إنّ على المؤمن إذا ضاقت به الأمور، وتكاثرت عليه المشكلات، وضاقت نفسه بما فيها؛ عليه أن يتذكر رحمة الله فتذهب همومه، وتزول غمومه، وينزاح اليأس والقنوط عن نفسه، هذا إذا كان مؤمناً ذاكراً لله مقدراً له حق قدره، فإن لم يكن كذلك وغلبه اليأس فــ (إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الكَافِرُونَ)وقال: (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) [الحجر: 56] إن هذا الإنسان هارب من عذاب الدنيا الزائل مهما بلغ ليقع في عذاب الآخرة الذي لا ينتهي.

إنّ هذه الجريمة البشعة العظيمة ليس لها ما يبررها إلا القنوط من رحمة الله، واليأس من روحه، وسوء الظن به سبحانه، وكل ذلك يدل على أن الإيمان بالله وبقضائه وقدره ضعيف جداً في قلب من يسعى لقتل نفسه, ولذلك استحق تلك العقوبة القاسية الشديدة (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا).

وكذلك جاء التحذير في سنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- رَوَى البخاريُّ ومُسْلِمٌ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أنهُ قالَ: "مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا".

وعن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التقى هو والمشركون فاقتتلوا, فلما مال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عسكره, ومال الآخرون إلى عسكرهم, وفي أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجل لا يدع لهم شاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه, فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما إنه من أهل النار" فقال رجل من القوم: أنا صاحبه أبدا.

قال: فخرج معه كلما وقف وقف معه وإذا أسرع أسرع معه, قال: فجرح الرجل جرحا شديدا فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه وضوء وذبابه بين ثدييه, ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه. فخرج الرجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أشهد أنك رسول الله. قال: وما ذاك قال الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أهل النار فأعظم الناس ذلك. فقلت: أنا لكم به فخرجت في طلبه حتى جرح جرحا شديدا فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه وضوء وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثم ذلك إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة" [ رواه مسلم ].

وعن جندب -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ اللَّهُ: بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ"، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي يخنق نفسه يخنقها في النار والذي يطعنها يطعنها في النار" [ رواه البخاري ]. وعن أبى هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "من خنق نفسه في الدنيا فقتلها خنق نفسه في النار ومن طعن نفسه طعنها في النار..." [ رواه ابن حبان].

عباد الله: ما كان الانتحار علاجاً للمشكلات، ولا حلاً للمعضلات, وليس دواءً لما يحل بنا من النكبات، بل هو داء يسبب الانتكاسة والحرمان من الجنة, ويجلب سخط الرب -تبارك وتعالى-, ويوجب العقوبة الشديدة في الآخرة كما سمعتم من أحاديث نبيكم –عليه الصلاة والسلام-.

فعلينا أن نحسن الظن بربنا, ونتوكل عليه ونفوض أمرنا إليه, فهو -والله- أرحم بنا من أنفسنا, ولنحذر الغفلة والبعد عن الطاعة فإنها سببٌ للشقاء والتعاسة, وما كثر القلق والهم والغم إلا لكثرة الذنوب وقلة الطاعات, والبعد عن بيوت الرحمن, والوقوف بين يديه وقد كان نبيكم إذا حزبه أمرٌ نادى بلالاً: " أرحنا بها يا بلال" أي بالصلاة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) [طه: 124، 127].

الكلمة الشهرية
بشرى لأهل الإستقامة

أقرأ المزيد
القائمة البريدية